عنوان الكتاب: الدين والدولة وتطبيق الشريعة
اسم المؤلف: محمد عابد الجابري
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: 2004م
عدد الصفحات: 210
عرض ونقد: القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية
كتاب هذا الشهر لأحد الكتاب الذي يمكن أن يقال عنه أنه أحد الدعاة إلى مشروع تحديث الشريعة وتجديدها وعصرنتها، يريد من خلاله أن تواكب الشريعة التطور، وظروف العصر الذي نعيشه، وقد أثارت كتاباته جدلًا كبيرًا؛ لما احتوته من أفكار، لا يُوافق كاتبها على الكثير منها، ومن هذه الكتابات التي انتُقدت، ووُجِّهت إليها العديد من المؤاخذات كتاب (الدين والدولة وتطبيق الشريعة)، وسوف نقوم بعرض الكتاب، وبيان أهم الأفكار التي اشتمل عليها، ثم نتبعه بذكر المؤاخذات التي أُخذت عليه، نعلق على بعضها، وبعضها يغني إيراده عن إبطاله.
عرض الكتاب:
الكتاب عبارة عن مقدمة وقسمين:
مقدمة ضرورة المرجعية المنفتحة:
يدعو المؤلف في هذه المقدمة إلى ضرورة تكوين مرجعية تكون أسبق وأكثر مصداقية من المرجعيات المذهبية، وهذه المرجعية التي يدعو إليها تقوم على عمل الصحابة على عهد الخلفاء الراشدين، فهم الذين مارسوا السياسة، وشيَّدوا صرح الدولة، وطبقوا الشريعة على أساس فهم أصيل لروح الإسلام، مراعين مبدأ وحيدًا هو المصلحة، فكانوا يتصرفون بحسب ما تمليه المصلحة، على حد زعم المؤلف.
وفي الفقرة الثانية يبين المقصود من عمل الصحابة بأنه مجموع ممارساتهم السياسية والتشريعية العملية والقولية، ويقرر أنها كانت تجربة تاريخية مؤطرة بالمعطيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ثم قام بإبراز هذه الحقائق التاريخية والاجتماعية التي كانت تؤطر في عهدهم موضوع الدين والدولة، وذكر خمسة حقائق من وجهة نظره؛ ليخرج بنتيجة، وهي أن مسألة العلاقة بين الدين والدولة لم تُطرح لا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا في زمن الخلفاء الراشدين، ثم انتقل إلى موضوع الإمامة مبينًا نظريات وآراء الفقهاء والمتكلمين حاصرًا لها في مواقف ثلاثة، ثم صنَّف توظيف المتكلمين في الإمامة للتجربة التاريخية للأمة إلى ثلاثة أصناف، وذكر أنَّ هذه الأصناف من التوظيف للتجربة التاريخية للأمة في الفقه السياسي السني تجعل العلاقة بين الدين والدولة علاقة غامضة وملتبسة.
وفي الفقرة الثالثة قرر أن الإسلام عقيدة وشريعة، ثم طرح سؤالًا: وهو (كيف طبِّقت أحكام الشرع خلال التجربة التاريخية للأمة الإسلامية بقطع النظر عن شكل السلطة التي تتولى تطبيقها) ثم يقرِّر أنَّ مبدأ المصلحة هو المستند الذي كان الصحابة يرتكزون عليه في تطبيقهم للشريعة، سواء تعلق الأمر بما فيه نص أو بما ليس فيه، ثم ذكر عدة أمثلة على ذلك؛ ليخلص بأن المصالح الكلية هي الأصل الوحيد الذي كان الصحابة يعتمدونه في تطبيقهم لأحكام الشرع.
وأما القسم الأول فهو (مسألة الدين والدولة) فقد تناول من خلاله العديد من الموضوعات، وهي:
- الدين والدولة في المرجعية التراثية: ويقرِّر هنا أنَّ: السؤال هل الإسلام دين أم دولة؟ سؤال لم يُطرح في الفكر الإسلامي منذ ظهور الإسلام حتى أوائل القرن الماضي، وإنما طُرح ابتداء من منتصف القرن الماضي بمضمون لا ينتمي إلى التراث الإسلامي، لذا حاول المؤلف أن يجرد هذا السؤال من عناصر التزييف حتى يمكن طرحه بالصيغة التي يكون بها معبرًا عن الواقع العربي؛ لذا تناول هذا الموضوع على أربع مراحل:
أولًا: النظر في الكيفية التي يجب أن تُطرح المسألة بها داخل المرجعية التراثية، حتى يمكن أن يكون لها جواب مستمدٌّ من هذه المرجعية.
ثانيًا: تحليل العناصر التي بها الجواب الذي تقدمه هذه المرجعية.
ثالثًا: الكيفية التي طرح بها المشكل في المرجعية النهضوية العربية الحديثة والمعاصرة .
رابعًا: علاقة المسألة بالواقع العربي الراهن وآفاق مستقبله.
ويرى أنه لكي يصبح السؤال المطروح قابلاً للجواب من داخل التجربة الحضارية الإسلامية- لابد من إعادة صياغته، ووضع كلمة (أحكام) مكان كلمة (دين)، وكلمة (سلطة) مكان كلمة (دولة).
الخلافة وميزان القوى: يقرِّر المؤلف أنه لم يكن من جملة أهداف النبي في بداية دعوته إنشاء دولة، كذلك ليس في القرآن دعوة إلى ذلك، وفي نفس الوقت هناك أحكام في القرآن تتطلَّب سلطة تنوب عن الجماعة في تنفيذها، وتنفيذ هذه الأحكام أدَّى إلى تطور الدعوة الإسلامية إلى دولة منظمة ذات مؤسسات، ثم ينتقل إلى حادثة اجتماع المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة بالمدينة لاختيار الخليفة، باعتبارها الإطار المرجعي الرئيس- إن لم يكن الوحيد- الذي استند إليه فقهاء أهل السنة في تشييد نظريتهم في الخلافة، ثم يخلص المؤلف إلى أنَّ نظرية الخلافة عند أهل السنة هي في جملتها تقنين لأمر واقع، وأنه لم يكن هناك فرق كبير بين نظريات الفقهاء في موضوع الخلافة، وبين الصورة أو الصور الواقعية التي كان عليها الحكم في الإسلام.
ويخلص أيضًا إلى أنه لما كان النبي قد ترك الأمر لصحابته ليفصلوا فيه من بعده، فإن ما أقره الصحابة، وما صنعه الخلفاء من بعدهم، وما قاله الفقهاء في الخلافة، كل ذلك يؤول أمره إلى الاجتهاد، والاجتهاد في مسألة تُرِك أمرها للمسلمين سيختلف حتمًا باختلاف العصور، وتغير الظروف.
- الخلافة وثغرات دستورية: ويقرر من خلاله أنه بما أنه ليس هناك نص تشريعي ينظم مسألة الحكم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تُوفِّي دون تعيين خليفة، أو طريقة تعيينه، أو تحديد اختصاصاته- فإنَّ المسألة تنتمي إلى الأمور الدنيوية التي نحن أعلم بها، وتكون المصلحة العامة التي تقتضيها ظروف العصر هي المرجع، والخلقية الإسلامية هي الموجِّه، والتجربة التاريخية لأمة هي موطن الاعتبار، ويستخلص من أحداث الفتنة الكبرى وأحداث السنين الست من حياة عثمان أن ذلك كان تعبيرا عن فراغ دستوري، أدَّى إلى تحول الخلافة إلى ملك، وظهر هذا الفراغ الدستوري في ثلاث مسائل رئيسة، هي: عدم إقرار طريقة مقننة لتعيين الخليفة، وعدم تحديد مدة ولايته، وعدم تحديد اختصاصاته.
- الأيدلوجيا السلطانية والخلقية الإسلامية: وفيه يقرِّر أنَّ معاوية بما أنَّه اغتصب الحكم، وأنه فاقد للشرعية فقد قام بإضفاء الشرعية لحكمه من خلال القضاء والقدر من جهة، ومن خلال العمل على استرضاء الناس- خصوصًا من الناحية المادية- من جهة أخرى، مع حمل الناس على النظر إلى مسألة الحكم بعين الواقعية السياسية، التي تقوم على التسليم لأمر الواقع، وسار مَن بعده مِن الأُمويين على هذا النهج، وأما العباسيون فقد التمسوا الشرعية لحكمهم من إرادة الله ومشيئته، وأنهم يحكمون بإرادة الله ومشيئته، وأصبح أساس الشرعية هو أن الخليفة العباسي خليفة الله، وسلطانه في أرضه.
ثم يذكر أنَّ التجربة التاريخية للأمة الإسلامية ليست هي السياسة المطبقة وحدها، بل إنها أيضاً ما يُعبر عنه بـالخلقية الإسلامية في الحكم، تلك الخلقية التي بقيت تلهم الفكر الحرَّ، وتنعش الآمال في الإصلاح والتغيير، على حدِّ تعبيره ، وعناصر هذه الخلقية الأساسية هي: الشورى، والمسؤولية التي تتوزع في جسم المجتمع، والعنصر الثالث هو قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) وذلك فيما لا نصَّ فيه.
- بدلًا من العلمانية الديمقراطية والعقلانية: وبيَّن فيه معنى العلمانية، وظروف نشأتها، ورأى استبعاد هذا المصطلح، واستبداله بمصطلحي (الديمقراطية والعقلانية)؛ لأنهما يعبران تعبيرًا حقيقيًّا عن حاجات المجتمع العربي. الديمقراطية بمعنى حفظ الحقوق للأفراد والجماعات، والعقلانية بمعنى الصدور في الممارسة السياسة عن العقل، ومعاييره المنطقية والأخلاقية.
ومن الموضوعات التي تناولها المؤلف أيضًا في هذا القسم: الدين والسياسة والحرب الأهلية- الدين والدولة في المرجعية النهضوية- ضرورة تجنب تعميم المشاكل القطرية- الطائفية والديمقراطية، مسألة تنفيذ الأحكام- الخلافة وميزان القوى.
وأما القسم الثاني فهو مسألة تطبيق الشريعة وتناول من خلاله عدة موضوعات منها:
- الصحوة والتجديد: ينتقد فيه مصطلح الصحوة، ويفضل عليه مصطلح التجديد، وذلك لاحتياج المسلمين إليه؛ لما يواجهه العالم العربي من تحديات، والتي تحتاج إلى فعل العقل (الضبط والتنظيم وحساب الخطوات وحصر التوقعات ...) ويرى أن مفهوم التجديد لا بد أن يتغير بحسب الظروف والأعصار.
- السلفية أم التجربة التاريخية للأمة: بدأ المؤلف بإبراز الوجه المشرق للسلفية، وذكر فيه ما كان يحظى به السلفي في المغرب من صورة طيبة في الأذهان في فترة معينة لارتباطه بمعاداة المستعمر ومناهضة الواقع الوطني المتخلف ومحاربة الشعوذة إلى غير ذلك وأن لقب السلفي كان يفوق لقب الوطني، ويعتبر أنَّ السلفية كانت أحد مظاهر التجربة التاريخية الإصلاحية للإسلام، الذي تستعيد به هذه التجربة ما يحفظ لها الوجود والاستمرارية، عندما يفرز تطورها الداخلي ما يهددها بالاندثار، وينتهي إلى أن التجربة التاريخية للأمة العربية لا يكفي فيها استلهام نموذج السلف الصالح وحده، فهذا النموذج إنما كان من أجل إعادة بناء الذات، وأن النموذج الذي يجب استلهامه ينبغي ألا يكون من نوع النموذج السلف، بل يجب أن يشمل جماع التجربة التاريخية لأمتنا مع الاستفادة من التجربة التاريخية للأمم المناضلة، فنموذج السلف إنما كان نموذجًا كافيًا يوم كان التاريخ هو تاريخنا، يوم كان العالم كله يقع في عقر دارنا.
- من أجل اجتهاد مواكب: وفيه يدعو إلى اعتماد كليات الشريعة ومقاصدها بدل الاقتصار على تفهم معنى ألفاظ النصوص، واستنباط الأحكام منها، أو على قياس حادثة على حادثة فيما لا نص فيه.
- معقولية الأحكام الشرعية: فيدعو إلى إعادة تأصيل الأصول، وجعل أساس التفكير والاجتهاد هو اعتبار المقاصد والمصالح ومعقولية الأحكام، وأن ذلك يفتح الباب أمام التجديد، فاعتبار المصالح يتطور بتطور المصالح والأوضاع واختلاف الوضعيات ومن ثمَّ يقول: قطع يد السارق تدبير معقول تماما في مجتمع بدوي صحراوي يعيش أهله في الحل والترحال. وينتهي إلى أن بناء معقولية الحكم الشرعي على أسباب النزول في إطار اعتبار المصلحة يفسح المجال لبناء معقولية أخرى عندما يتعلق الأمر بأسباب نزول أخرى، أي بوضعيات جديدة، وبذلك تتجدد الحياة في الفقه، وتتجدد الروح في الاجتهاد، وتصبح الشريعة مسايرة للتطور قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان.
- الأحكام والدوران: فيتعرض لقاعدة (الحكم الشرعي يدور مع علته) وينتهي إلى أن مثل هذه القواعد الأصولية ليست مما نص عليه الشرع ولا الكتاب ولا السنة، وأنها من وضع الأصوليين كقواعد منهجية للتفكير لذا على زعمه لا مانع من اعتماد قواعد منهجية أخرى إذا كان من شأنها تحقيق الحكمة من التشريع في زمن معين بطريقة أفضل .
- ادرؤوا الحدود بالشبهات: فيتحدث عن نسبية تطبيق الشريعة، وتفاوت هذه النسبية، وأن تطبيق الشريعة لا يعني فقط إقامة الحدود، بل إن هناك مبادئ وأحكامًا لابد أن تطبق، مثل مبدأ الشورى، ومبدأ (كاد الفقر أن يكون كفرًا) في الحياة الاجتماعية والاقتصادية إلى غير ذلك، وأن تطبيق هذه المبادئ يجب أن يسبق بعض الحدود الشرعية خصوصًا حد السرقة، وينتهي إلى أن القاضي النزيه قد يضطر إل الاكتفاء بالسجن فيما يخص السرقة، طالما أن المجتمع فيه من يضطر إلى السرقة تحت ضغط الحاجة قياسًا على إيقاف عمر لحد السرقة في عام المجاعة.
- حول التطبيق الكامل الشريعة: حيث لم يجد المؤلف حرجًا في أن يقرر أن الشريعة لم تطبق كاملة في يوم من الأيام.
ومن هذه الموضوعات أيضًا التي تناولها هذا القسم: التطرف يمينًا ويسارًا- التطرف بين العقيدة والشريعة.
نقد الكتاب:
يتبنى المؤلف مشروعا تحديثيًّا تجديديًّا، يرى من خلاله ضرورة تجديد أمور الدين، عن طريق قراءة جديدة لنصوص الشريعة، وفهم جديد يناسب ظروف العصر ومعطياته، لذا فلا عجب أن يدعو إلى التجديد في الأصول وفي أحكام الشريعة، التي يرى أنه ينبغي أن تبنى على المصلحة، التي تتغير بتغير الزمان والمكان، ولذا يقول بعدم مناسبة اعتبار النموذج السلفي في هذا العصر إلى غير ذلك مما حمله هذا الكتاب، وفيما يلي أهم المؤاخذات على الكتاب:
أولاً: تبني مشروع تجديد الشريعة.
ويتمثل هذا التجديد- الذي يريد المؤلف أن يكون تجديدًا جذريًّا، تجديدًا في الأعماق ومن الأعماق، يتمثل هذا التجديد في أمور، منها:
1- إعادة تأصيل الأصول.
لم يكن من السهل أن يتم للمؤلف- ومَن على شاكلته- مشروع التجديد دون إزالة العقبات التي تعترض هذا المشروع، ومن أهمها هذا التراث الذي تركه علماء هذه الأمة من قواعد في الفهم، وأصول في الاجتهاد، فأعلن المؤلف التمرد على هذا التراث، لذا يقول عن هذه الأصول تمهيدًا لنسفها؛ يقول (ص: 179) إنها (ليست مما نص عليه الشرع ولا الكتاب ولا السنة، بل إنها من وضع الأصوليين، إنها قواعد للتفكير وقواعد منهجية، ولا شيء يمنع من اعتماد قواعد منهجية أخرى إذا كان من شأنها أن تحقق الحكمة من التشريع في زمن معين بطريقة أفضل).
ومن ثم يتناول أحد القواعد الأصولية المتقررة وهي أن (الحكم يدور مع علته وجودا وعدما) والعلة وصف منضبط، وبهذا الوصف يُعرف وجود الحكم. فيريد المؤلف أن تكون القاعدة هكذا: الحكم الشرعي يدور معالحكمة والمصلحة لا مع العلة، فإذا وُجدت الحكمة والمصلحة وُجد الحكم، وإذا عُدمت أُلغي الحكم، ويمثل على ذلك: بمسألة إباحة الفوائد المترتبة على بعض المعاملات المالية التي هي نوع من شهادات الاستثمار وسندات البنوك وذلك لعدم وجود الاستغلال في هذا النوع من المعاملات، ويقول (ص: 177): ومعلوم أن منعالاستغلال هو الحكمة من تحريم الربا.
ثم يقول (ص: 182): لماذا نضيق على أنفسنا، ونسجن اجتهادنا في قواعد كانت تفي بالمصلحة والمقاصد قليلًا أو كثيرًا في زمان، إذا لم تعد تفي بنفس الغرض اليوم على أكمل وجه؟ والحال أنها قواعد مبنية على ظن المجتهد، وليس فيها شيء من القطع واليقين باعتراف أصحابها أنفسهم، أما دوران الأحكام مع المصالح فشيء يفرض نفسه ما دمنا نقرر أن المصلحة هي الأصل في التشريع، وأعتقد أن هذا المبدأ هو الذي صدر عنه الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب، وإذن فالاجتهاد يجب أن يكون لا في قبول هذا المبدأ أو عدم قبوله بل في نزع الطابع الميكانيكي عن مفهوم الدوران، والعمل من أجل الارتفاع بفكرة المصالح إلى مستوى المصلحة العامة الحقيقية، كما تتحدد من منظور الخلقية الإسلامية، إنه بدون هذا النوع من التجديد سيبقى كل اجتهاد في إطار القواعد الأصولية القديمة اجتهاد تقليد وليس اجتهاد تجديد، حتى ولو أُتي بفتاوى جديدة.
ودعوى المؤلف تجديد الأصول بهذا المعنى دعوى مرفوضة، المراد منها التلاعب في الأحكام الشرعية، وتبديلها دون التقيد بقواعد ولا ضوابط، وإلا فلماذا ينادى بتجديد أصول الفقه على وجه الخصوص دون علم الفقه أو العقيدة أو التفسير أو المصطلح وغيرها من العلوم ؟
إن هذه الأصول والقواعد مبنية على نصوص الشريعة وعمل الصحابة وفهمهم مع الاستعانة بقواعد اللغة خلافا لما يدعيه المؤلف، الذي يريد أن يطوع ثوابت الشريعة وأصولها لمتغيرات الحياة وظروفها وتطورها بدعوى أن هذه الأصول لم تعد مناسبة لهذا العصر.
2- الاعتماد على معقولية الأحكام الشرعية
فقد جعل المؤلف المقاصد والمصالح أساسًا للتشريع، وربط الأحكام الشرعية بأسباب نزولها، وفي هذا يقول (ص:170): عملية تأسيس معقولية الأحكام هي العملية التي بدونها لا يمكن تطبيق الشريعة على المستجدات، ولا على الظروف والأحوال المختلفة المتباينة، ولما كان مقصد الشارع الأول والأخير هو مصلحة الناس (فالله غني عن العالمين)، فإن اعتبار المصلحة هو الذي يؤسس معقولية الأحكام الشرعية، وبالتالي فهو أصل الأصول كلها، وواضح أن هذه الطريقة تتحرك في دائرة واسعة لا حدود لها؛ دائرة المصلحة، وبالتالي فهي تجعل الاجتهاد ممكناً ولدى كل حالة.
ويدعو كذلك إلى ربط الأحكام بأسباب نزولها حتى تبدو الشريعة أشد مسايرة لظروف العصر ومتغيراته فيقول (ص: 173): لا سبيل إلا باعتبار المقاصد والمصالح أساسًا للتشريع، ذلك لأنه في هذه الحالة يتجه المجتهد بتفكيره لا إلى اللفظ (الحقيقة، المجاز، الاستعارة، الخصوص، العموم)، بل إلى (أسباب النـزول)، وهذا باب عظيم واسع يفتح المجال لإضفاء المعقولية على الأحكام بصورة تجعل الاجتهاد في تطبيقها، وتنويع التطبيق باختلاف الأحوال وتغير الأوضاع أمرًا ميسورًا. ويقول: بناء معقولية الحكم الشرعي على (أسباب النـزول) في إطار اعتبار المصلحة يُفسح المجال لبناء معقوليات أخرى عندما يتعلق الأمر بـ(أسباب نزول) أخرى، أي بوضعيات جديدة، وبذلك تتجدد الحياة في الفقه، وتتجدد الروح في الاجتهاد، وتصبح الشريعة مسايرة للتطور قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان.
ولا شك أن ذلك يترتب عليه تبديل الأحكام على اعتبار أن الأحكام ارتبطت بزمنها ومكانها، لذا يرى ضرورة تغيرها في زماننا هذا، والصحيح أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب يقول الشوكاني عن: (وهو المذهب الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة؛ لأن التعبد للعباد إنما هو باللفظ الوارد عن الشارع، وهو عام ووروده على سؤال خاص لا يصلح قرينة لقصره على ذلك السبب، ومن ادعى أنه يصلح لذلك فليأت بدليل تقوم به الحجة، ولم يأت أحد من القائلين بالقصر على السبب بشيء يصلح لذلك) ((إرشاد الفحول))(1/335).
ويترتب على قول المؤلف هذا أنه يرى ضرورة إعادة النظر في موضوع الحدود كما في النقطة التالية.
3- إسقاط الحد في جرائم السرقة والزنا وغيرهما، والاكتفاء فيها بالسجن
وهذا مترتب على قوله بمعقولية الأحكام الشرعية، لأن الحدود- في نظره- ليست غاية في ذاتها، وإنما هي وسيلة لردع وزجر النوازع الذاتية الفردية الهدامة، أي التي تمس مصلحة الجماعة أو الأمة.
فيقول (ص: 174): إذا تحررنا من سلطة القياس والانشداد إلى الألفاظ، وانصرفنا باهتمامنا بدلاً من ذلك إلى البحث عن (أسباب النـزول)، وهي هنا الوضعية الاجتماعية التي اقتضت نوعًا ما من المصلحة، وطريقة معينة في مراعاتها، فإننا سنجد أن قطع يد السارق تدبير مبرر ومعقول داخل تلك الوضعية، وهكذا فبالرجوع إلى زمن البعثة المحمدية، والنظر إلى الأحكام الشرعية في إطار الوضعية التي كانت قائمة يومئذ، سنهتدي إلى المعطيات التالية: أولاً: أن قطع يد السارق كان معمولاً به قبل الإسلام في جزيرة العرب. ثانياً: أنه في مجتمع بدوي ينتقل أهله بخيامهم وإبلهم من مكان إلى آخر طلباً للكلأ؛ لم يكن من الممكن عقاب السارق بالسجن، إذ لا سجن ولا جدران ولا سلطة تحرس المسجون وتمده بالضروري من المأكل والملبس…. إلخ، وإذن فالسبيل الوحيد هو العقاب البدني. وبما أن انتشار السرقة في مثل هذا المجتمع سيؤدي حتمًا إلى تقويض كيانه، إذ لا حدود ولا أسوار ولا خزائن، فلقد كان من الضروري جعل العقاب البدني يلبي هدفين: تعطيل إمكانية تكرار السرقة إلى ما لا نهاية، ووضع علامة على السارق حتى يُعرف ويحتاط الناس منه، ولا شك أن قطع اليد يلبي هذين الهدفين معًا، وإذن فقطع يد السارق تدبير معقول تمامًا في مجتمع بدوي صحراوي يعيش أهله على الحل والترحال، ولما جاء الإسلام وكان الوضع العمراني الاجتماعي زمن البعثة لا يختلف عما كان عليه من قبل احتُفظ بقطع اليد كحد للسرقة من جملة ما احتُفظ به من التدابير والأعراف والشعائر التي كانت جارية في المجتمع العربي قبل الإسلام، مع إدراجها في إطار خلقية الإسلام.
ويستدل الجابري على إسقاط الحدود بحديث (ادرؤوا الحدود بالشبهات) مدعياً أن شبهات عصرنا كثيرة ومتفرعة بسبب تعقد الحياة المعاصرة، وتنوع الحوافز فيها، بالإضافة إلى وجود الشبهات الراجعة إلى السياسة التي تجعل تنفيذ الحدود يلتبس بالأغراض والدوافع السياسية، وتلك-كما يقول- شبهة وأية شبهة.
فالمؤلف يحتال على رد الحدود بأن هذه الحدود كانت مناسبة للوقت التي شرعت فيه، أما الآن فالأمر يختلف، وهذا كلام باطل مردود.
ثم إن معرفة مقاصد الشريعة ليس المراد منها الاستغناء بها عن أحكام الشريعة التفصيلية التي أثبتتها النصوص؛ لأن الله تعالى طلب منا أن نحقق هذه المقاصد عن طريق الوسائل التي شرعها، ولم يترك لنا الخيار في تحقيقها بأي طريق، فنحن متعبدون بالوسائل كالتعبد بالمقاصد، فالإسلام قصد من قطع يد السارق الردع والزجر، وشرط علينا أن نحقق ذلك عن طريق القطع، فعقوبة السارق بما هو فوق ما حدَّه الشرع ظلم، وعقوبته بما هو دون القطع لا يتحقق منه المقصد الشرعي.
4- التوسع في تحديد مقاصد الشريعة
فالمؤلف لم يقتصر بعد دعوته إلى الاعتماد على المقاصد الشرعية أساسًا في التشريع، لم يقتصر فيها على ما ذكره فقهاء الأمة، واتفقوا عليه فيما يدخل ضمن الضروريات، والحاجيات، والتحسينات، حيث يقول (ص:189): إن الأمور الخمسة التي حصر فيها فقهاؤنا القدامى الضروريات كانت وما تزال وستبقى أمورًا ضرورية بالفعل، أي مقاصد أساسية لكل تشريع يستهدف فعلاً خدمة (مصالح العباد)، غير أن (مصالح العباد) اليوم لم تعد مقصورة على حفظ الدين والنفس العقل والنسل والمال، بل إنها تشمل بالإضافة إلى الأمور الخمسة المذكورة أمورًا أخرى نعتقد أنه لابد من أن ندرج فيها: الحق في حرية التعبير وحرية الانتماء السياسي، والحق في انتخاب الحاكمين وتغييرهم، والحق في الشغل والخبز والمسكن والملبس، والحق في التعليم والعلاج.. إلى غير ذلك من الحقوق الأساسية للمواطن في المجتمع المعاصر. أما الحاجيات فبالإضافة إلى ما ذكره فقهاؤنا القدامى؛ هناك حاجيات جديدة مثل الحاجة إلى توفير الصحة والوقاية من الأمراض بإعداد ما يكفي من مستشفيات وغيرها، والحاجة إلى ما لابد منه لتنشيط الإبداع الفكري في مختلف المجالات العلمية والفنية والنظرية، والحاجة إلى ما لابد منه لاكتساب معرفة صحيحة بالواقع والأحداث… أما التحسينات التي يتطلبها عصرنا فحدِّث ولا حرج. ويختم كلامه بهذا الخصوص بقوله (ص:192): إذا كانت هناك ضرورات عامة خالدة كتلك التي أحصاها فقهاؤنا بالأمس، فإن لكل عصر ضرورياته وحاجياته وتكميلياته، وهكذا فعندما ننجح في جعل ضروريات عصرنا جزءًا من مقاصد شريعتنا فإننا سنكون قد عملنا ليس فقط على فتح باب الاجتهاد في وقائع عصرنا المتجددة المتطورة؛ بل سنكون أيضًا قد بدأنا العمل في تأصيل أصول شريعتنا نفسها بصورة تضمن الاستجابة الحية لكل ما يحصل من تغيير أو يطرأ من جديد.
ثانيا: ادعاؤه أن الشريعة الإسلامية لم تطبق تطبيقاً كاملاً في كل مراحل التاريخ الإسلامي
ولم يستثن المؤلف من ذلك حتى المرحلة الأولى في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، فنراه يعلنها صراحة في قوله ص203: أنا لا أجد حرجاً لا في ديني ولا في وجداني ولا في عقلي إذا قلتُ إن الشريعة الإسلامية لم تطبق قط كاملة في يوم من الأيام.
ثالثا: عدم مناسبة النموذج السلفي لهذا العصر
فيرى المؤلف أن السلفية لا تناسب الأمة الإسلامية في العصر الحاضر للحفاظ على وجودها واستمراريتها لأن السلفية يراها نوعا من المقاومة الذاتية لأمراض داخلية ذاتية المنشأ، وقد كانت كافية وناجعة عندما كانت الحضارة العربية الإسلامية هي حضارة العالم لعصرها، أعني غير مزاحمة ولا مهددة بحضارة معاصرة لها على صعيد الزمن كما في (ص:140) . لذا فهو يرى أن النموذج الذي يجب استلهامه من أجل إعادة بناء الذات تجربتان: أولاهما جماع التجربة التاريخية لأمتنا بغض النظر عمن صدرت عنهم هذه التجربة وعن موافقتها للحق والصواب من عدمه. والثانية: التجربة التاريخية لمختلف الأمم الأخرى، لذا يقول (ص: 141): النموذج الذي يجب استلهامه من أجل إعادة بناء الذات؛ ذاتنا نحن وتحصينها وتلقيحها ضد الذوبان والاندثار والاستلاب ينبغي ألا يكون من نوع (النموذج –السلف) الذي يُقدِّم نفسه كعالم يكفي ذاته بذاته، بل يجب أن يشمل جماع التجربة التاريخية لأمتنا مع الاستفادة من التجربة التاريخية للأمم التي تناضل مثلنا من أجل الوجود والحفاظ على الوجود، وأيضاً من التجربة التاريخية للأمم التي أصبحت اليوم تفرض حضارتها كحضارة للعالم أجمع. لقد كانت السلفية كافية وفعالة وإجرائية يوم كنا وحدنا في بيت هو بيتنا وبيت لنا في نفس الوقت، أما وقد أصبحنا جزءاً في كل فإن الطريق الوحيد لإثبات وجودنا والحفاظ على خصوصيتنا داخل هذا الكل هو طريق التعامل معه بالمنطق الذي يؤثر فيه؛ منطقه هو ولكن من مواقعنا لا من مواقع غيرنا، ومنطق الكل الذي ننتمي إليه اليوم – أعني منطق الحضارة المعاصرة- يتلخص في مبدأين: العقلانية، والنظرة النقدية. العقلانية في الاقتصادي والسياسة والعلاقات الاجتماعية، والنظرة النقدية لكل شيء في الحياة؛ للطبيعة والتاريخ والمجتمع والفكر والثقافة والإيديولوجيا. هذا في حين أن منطق سيرة السلف الصالح- التي تُمثل المدينة الفاضلة في التجربة التاريخية للأمة العربية الإسلامية- كان شيئاً آخر، كان منطقه يقوم على المبدأ التالي: الدنيا مجرد قنطرة إلى الآخرة، وقد أدى هذا المنطق وظيفته يوم كان العصر عصر إيمان فقط، وليس عصر علم وتقنية وأيديولوجيات.
ورأي المؤلف هذا ناشئ عن جهل بحقيقة السلفية وقدرتها على مواكبة العصر ومعايشة مستجداته.
رابعا: رغبته في إحلال الديمقراطية والعقلانية محل العلمانية:
وقد أصاب المؤلف حين اعتبر أنَّ إشكالية فصل الدين عن الدولة لا وجود لها في التجربة التاريخية للأمة الإسلامية. وأنه لا معنى في الإسلام لإقامة التعارض بين الدين والدولة وأن مسألة العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة، ولكنه يرى أنه يجب استبدال العلمانية بالديمقراطية والعقلانية.
لكن ما الذي يحوج النظام الإسلامي إلى الديمقراطية، والحكم الإسلامي حكم له تاريخه الخاص وله مؤسساته الخاصة وله آليته الخاصة في تحقيق أهدافه؟ وما هي العقلانية التي يريدها المؤلف؟ فدعوة المؤلف إلى الديمقراطية لا تختلف كثيرًا عن الدعوة إلى العلمانية، فالديمقراطية هي الوجه الآخر للعلمانية، مع تغاضيه عما تحمله من الكثير من المخالفات لأحكام الشريعة.
خامسا: دعوته إلى فصل الدين عن السياسة:
فقد دعا المؤلف إلى فصل الدين عن السياسة كما في (ص: 116) لأنَّ الدين يمثل ما هو مطلق وثابت، بينما تمثل السياسة ما هو نسبي ومتغير، والسياسة تحركها المصالح الشخصية الفئوية، أما الدين فيجب أن ينـزه عن ذلك، وأنَّ الدين يوحِّد في حين أنّ السياسة تفرق.
وهذه الدعوى من المؤلف ألا تعني فصل الدين عن الدولة؟ فمفهوم فصل السياسة عن الدين ما نشأ إلا بعد ظهور العلمانية، وكأثر من آثارها، ويكفي ذلك في رد دعوى المؤلف.
هذه الدعوى التي يكذبها التاريخ، فالمسلمون حينما كانت سياستهم مرتبطة بالدِّين، سادوا الدنيا، وفتحوا الفتوح، وشيدوا دولة العدل والإحسان، وأقاموا حضارة العلم والإيمان.
سادسا: جرأته على رد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم
فيقول: روجوا لحديث نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: (الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك)، ومدة ثلاثين سنة هي مدة خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة. وهناك حديث آخر أكثر دلالة فيما نحن بصدده يروونه بالعبارات التالية: (قال صلى الله عليه وسلم: إن هذا الأمر بدأ نبوة ورحمة وخلافة ثم يكون ملكاً عضوضاً ثم يكون عتواً وجبرية وفساداً في الأمة). والأحاديث التي من هذا النوع، أعني التي لها طابع سياسي يخدم وجهة نظر طرف معين، وهو في هذه الحالة يخدم قضية الأمويين، أحاديث مشكوك فيها، والغالب أنها موضوعة. وإذا كان من الممكن حمل هذا (الحديث) على محمل النقد للأوضاع التي عاشها مروجوه، فإن فيه تعزيزاً مباشراً لعملية (انقلاب الخلافة إلى ملك عضوض) بوصفها عملية (تنبأ) بها الرسول.
سابعا: إساءته لعثمان ومعاوية رضي الله عنهما
فقد قال عن عثمان (ص: 78) : مدة ولايته طالت حتى مله الناس.
وقال عنه أيضًا (ص: 78): والخليفة طاعن في السن يحيط به جماعة من الأقارب وأصحاب المصالح يصنعون له القرار ويسيئون التصرف ولم تجد النصيحة في إصلاح الوضع لأن جماعة الضغط وصانعي القرار المحيطين بالخليفة كانوا يعرفون كيف يحملونه على التراجع عن وعوده بالإصلاح )
كذلك أساء إلى معاوية رضي الله عنه فقال (ص:83): كان معاوية يعرف جيدًا أنه اغتصب الحكم بالسيف وأنه بالتالي يفتقد الشرعية.... فراح يلتمس الشرعية لحكمه من القضاء والقدر. إلى أن قال (ص: 84): وسار الخلفاء الأمويون من بعده على هذا النهج فاعتمدوا القول بالجبر كأيدلوجيا، والعطاء كممارسة سياسية، فكان هذا وذاك هو أساس الشرعية التي بنوا عليها حكمهم.
ثامنا: ادعاؤه أنَّ المصالح الكلية هي التي كانت تحرك عمل الصحابة.
ويحتج لذلك بأمور منها: عدم توزيع عمر أرض سواد العراق على المقاتلين، وفرض الخراج عليها كبديل لذلك، وأيضًا عدم إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة، وعدم قطع يد السارق في عام المجاعة.
ويجاب عن ذلك بأن عمر لم يقدم المصلحة على النص، وإنما رأى في موضوع قسمة الأرض تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ورأى في المؤلفة قلوبهم أن الحكم يدور على علة دفع أذاهم والاستعانة بهم، فلما قويت شوكة المسلمين انتفت علة إعطائهم من الزكاة، ولم يقطع يد السارق في عام المجاعة إعمالًا لقواعد الشريعة التي قضت بدرء الحدود بالشبهات، فلا يصح الاحتجاج بذلك على تعطيل النصوص بدعوى المصلحة، فلا يوجد حكم شرعي ينافي المصلحة.
هذه بعض المؤاخذات التي أخذت على المؤلف، وقد كانت محل نقد من كثير من أهل العلم لما تحمله من هدم لتراث الأمة وتبديل لشريعتها بدعوى التجديد، واكتفينا بردود إجمالية على ما طرحة المؤلف من شبهات، لتهافت هذه الشبهات، ولأن المقام لا يتسع للتفصيل في بيان عوارها.
اسم المؤلف: محمد عابد الجابري
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: 2004م
عدد الصفحات: 210
عرض ونقد: القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية
كتاب هذا الشهر لأحد الكتاب الذي يمكن أن يقال عنه أنه أحد الدعاة إلى مشروع تحديث الشريعة وتجديدها وعصرنتها، يريد من خلاله أن تواكب الشريعة التطور، وظروف العصر الذي نعيشه، وقد أثارت كتاباته جدلًا كبيرًا؛ لما احتوته من أفكار، لا يُوافق كاتبها على الكثير منها، ومن هذه الكتابات التي انتُقدت، ووُجِّهت إليها العديد من المؤاخذات كتاب (الدين والدولة وتطبيق الشريعة)، وسوف نقوم بعرض الكتاب، وبيان أهم الأفكار التي اشتمل عليها، ثم نتبعه بذكر المؤاخذات التي أُخذت عليه، نعلق على بعضها، وبعضها يغني إيراده عن إبطاله.
عرض الكتاب:
الكتاب عبارة عن مقدمة وقسمين:
مقدمة ضرورة المرجعية المنفتحة:
يدعو المؤلف في هذه المقدمة إلى ضرورة تكوين مرجعية تكون أسبق وأكثر مصداقية من المرجعيات المذهبية، وهذه المرجعية التي يدعو إليها تقوم على عمل الصحابة على عهد الخلفاء الراشدين، فهم الذين مارسوا السياسة، وشيَّدوا صرح الدولة، وطبقوا الشريعة على أساس فهم أصيل لروح الإسلام، مراعين مبدأ وحيدًا هو المصلحة، فكانوا يتصرفون بحسب ما تمليه المصلحة، على حد زعم المؤلف.
وفي الفقرة الثانية يبين المقصود من عمل الصحابة بأنه مجموع ممارساتهم السياسية والتشريعية العملية والقولية، ويقرر أنها كانت تجربة تاريخية مؤطرة بالمعطيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ثم قام بإبراز هذه الحقائق التاريخية والاجتماعية التي كانت تؤطر في عهدهم موضوع الدين والدولة، وذكر خمسة حقائق من وجهة نظره؛ ليخرج بنتيجة، وهي أن مسألة العلاقة بين الدين والدولة لم تُطرح لا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا في زمن الخلفاء الراشدين، ثم انتقل إلى موضوع الإمامة مبينًا نظريات وآراء الفقهاء والمتكلمين حاصرًا لها في مواقف ثلاثة، ثم صنَّف توظيف المتكلمين في الإمامة للتجربة التاريخية للأمة إلى ثلاثة أصناف، وذكر أنَّ هذه الأصناف من التوظيف للتجربة التاريخية للأمة في الفقه السياسي السني تجعل العلاقة بين الدين والدولة علاقة غامضة وملتبسة.
وفي الفقرة الثالثة قرر أن الإسلام عقيدة وشريعة، ثم طرح سؤالًا: وهو (كيف طبِّقت أحكام الشرع خلال التجربة التاريخية للأمة الإسلامية بقطع النظر عن شكل السلطة التي تتولى تطبيقها) ثم يقرِّر أنَّ مبدأ المصلحة هو المستند الذي كان الصحابة يرتكزون عليه في تطبيقهم للشريعة، سواء تعلق الأمر بما فيه نص أو بما ليس فيه، ثم ذكر عدة أمثلة على ذلك؛ ليخلص بأن المصالح الكلية هي الأصل الوحيد الذي كان الصحابة يعتمدونه في تطبيقهم لأحكام الشرع.
وأما القسم الأول فهو (مسألة الدين والدولة) فقد تناول من خلاله العديد من الموضوعات، وهي:
- الدين والدولة في المرجعية التراثية: ويقرِّر هنا أنَّ: السؤال هل الإسلام دين أم دولة؟ سؤال لم يُطرح في الفكر الإسلامي منذ ظهور الإسلام حتى أوائل القرن الماضي، وإنما طُرح ابتداء من منتصف القرن الماضي بمضمون لا ينتمي إلى التراث الإسلامي، لذا حاول المؤلف أن يجرد هذا السؤال من عناصر التزييف حتى يمكن طرحه بالصيغة التي يكون بها معبرًا عن الواقع العربي؛ لذا تناول هذا الموضوع على أربع مراحل:
أولًا: النظر في الكيفية التي يجب أن تُطرح المسألة بها داخل المرجعية التراثية، حتى يمكن أن يكون لها جواب مستمدٌّ من هذه المرجعية.
ثانيًا: تحليل العناصر التي بها الجواب الذي تقدمه هذه المرجعية.
ثالثًا: الكيفية التي طرح بها المشكل في المرجعية النهضوية العربية الحديثة والمعاصرة .
رابعًا: علاقة المسألة بالواقع العربي الراهن وآفاق مستقبله.
ويرى أنه لكي يصبح السؤال المطروح قابلاً للجواب من داخل التجربة الحضارية الإسلامية- لابد من إعادة صياغته، ووضع كلمة (أحكام) مكان كلمة (دين)، وكلمة (سلطة) مكان كلمة (دولة).
الخلافة وميزان القوى: يقرِّر المؤلف أنه لم يكن من جملة أهداف النبي في بداية دعوته إنشاء دولة، كذلك ليس في القرآن دعوة إلى ذلك، وفي نفس الوقت هناك أحكام في القرآن تتطلَّب سلطة تنوب عن الجماعة في تنفيذها، وتنفيذ هذه الأحكام أدَّى إلى تطور الدعوة الإسلامية إلى دولة منظمة ذات مؤسسات، ثم ينتقل إلى حادثة اجتماع المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة بالمدينة لاختيار الخليفة، باعتبارها الإطار المرجعي الرئيس- إن لم يكن الوحيد- الذي استند إليه فقهاء أهل السنة في تشييد نظريتهم في الخلافة، ثم يخلص المؤلف إلى أنَّ نظرية الخلافة عند أهل السنة هي في جملتها تقنين لأمر واقع، وأنه لم يكن هناك فرق كبير بين نظريات الفقهاء في موضوع الخلافة، وبين الصورة أو الصور الواقعية التي كان عليها الحكم في الإسلام.
ويخلص أيضًا إلى أنه لما كان النبي قد ترك الأمر لصحابته ليفصلوا فيه من بعده، فإن ما أقره الصحابة، وما صنعه الخلفاء من بعدهم، وما قاله الفقهاء في الخلافة، كل ذلك يؤول أمره إلى الاجتهاد، والاجتهاد في مسألة تُرِك أمرها للمسلمين سيختلف حتمًا باختلاف العصور، وتغير الظروف.
- الخلافة وثغرات دستورية: ويقرر من خلاله أنه بما أنه ليس هناك نص تشريعي ينظم مسألة الحكم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تُوفِّي دون تعيين خليفة، أو طريقة تعيينه، أو تحديد اختصاصاته- فإنَّ المسألة تنتمي إلى الأمور الدنيوية التي نحن أعلم بها، وتكون المصلحة العامة التي تقتضيها ظروف العصر هي المرجع، والخلقية الإسلامية هي الموجِّه، والتجربة التاريخية لأمة هي موطن الاعتبار، ويستخلص من أحداث الفتنة الكبرى وأحداث السنين الست من حياة عثمان أن ذلك كان تعبيرا عن فراغ دستوري، أدَّى إلى تحول الخلافة إلى ملك، وظهر هذا الفراغ الدستوري في ثلاث مسائل رئيسة، هي: عدم إقرار طريقة مقننة لتعيين الخليفة، وعدم تحديد مدة ولايته، وعدم تحديد اختصاصاته.
- الأيدلوجيا السلطانية والخلقية الإسلامية: وفيه يقرِّر أنَّ معاوية بما أنَّه اغتصب الحكم، وأنه فاقد للشرعية فقد قام بإضفاء الشرعية لحكمه من خلال القضاء والقدر من جهة، ومن خلال العمل على استرضاء الناس- خصوصًا من الناحية المادية- من جهة أخرى، مع حمل الناس على النظر إلى مسألة الحكم بعين الواقعية السياسية، التي تقوم على التسليم لأمر الواقع، وسار مَن بعده مِن الأُمويين على هذا النهج، وأما العباسيون فقد التمسوا الشرعية لحكمهم من إرادة الله ومشيئته، وأنهم يحكمون بإرادة الله ومشيئته، وأصبح أساس الشرعية هو أن الخليفة العباسي خليفة الله، وسلطانه في أرضه.
ثم يذكر أنَّ التجربة التاريخية للأمة الإسلامية ليست هي السياسة المطبقة وحدها، بل إنها أيضاً ما يُعبر عنه بـالخلقية الإسلامية في الحكم، تلك الخلقية التي بقيت تلهم الفكر الحرَّ، وتنعش الآمال في الإصلاح والتغيير، على حدِّ تعبيره ، وعناصر هذه الخلقية الأساسية هي: الشورى، والمسؤولية التي تتوزع في جسم المجتمع، والعنصر الثالث هو قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) وذلك فيما لا نصَّ فيه.
- بدلًا من العلمانية الديمقراطية والعقلانية: وبيَّن فيه معنى العلمانية، وظروف نشأتها، ورأى استبعاد هذا المصطلح، واستبداله بمصطلحي (الديمقراطية والعقلانية)؛ لأنهما يعبران تعبيرًا حقيقيًّا عن حاجات المجتمع العربي. الديمقراطية بمعنى حفظ الحقوق للأفراد والجماعات، والعقلانية بمعنى الصدور في الممارسة السياسة عن العقل، ومعاييره المنطقية والأخلاقية.
ومن الموضوعات التي تناولها المؤلف أيضًا في هذا القسم: الدين والسياسة والحرب الأهلية- الدين والدولة في المرجعية النهضوية- ضرورة تجنب تعميم المشاكل القطرية- الطائفية والديمقراطية، مسألة تنفيذ الأحكام- الخلافة وميزان القوى.
وأما القسم الثاني فهو مسألة تطبيق الشريعة وتناول من خلاله عدة موضوعات منها:
- الصحوة والتجديد: ينتقد فيه مصطلح الصحوة، ويفضل عليه مصطلح التجديد، وذلك لاحتياج المسلمين إليه؛ لما يواجهه العالم العربي من تحديات، والتي تحتاج إلى فعل العقل (الضبط والتنظيم وحساب الخطوات وحصر التوقعات ...) ويرى أن مفهوم التجديد لا بد أن يتغير بحسب الظروف والأعصار.
- السلفية أم التجربة التاريخية للأمة: بدأ المؤلف بإبراز الوجه المشرق للسلفية، وذكر فيه ما كان يحظى به السلفي في المغرب من صورة طيبة في الأذهان في فترة معينة لارتباطه بمعاداة المستعمر ومناهضة الواقع الوطني المتخلف ومحاربة الشعوذة إلى غير ذلك وأن لقب السلفي كان يفوق لقب الوطني، ويعتبر أنَّ السلفية كانت أحد مظاهر التجربة التاريخية الإصلاحية للإسلام، الذي تستعيد به هذه التجربة ما يحفظ لها الوجود والاستمرارية، عندما يفرز تطورها الداخلي ما يهددها بالاندثار، وينتهي إلى أن التجربة التاريخية للأمة العربية لا يكفي فيها استلهام نموذج السلف الصالح وحده، فهذا النموذج إنما كان من أجل إعادة بناء الذات، وأن النموذج الذي يجب استلهامه ينبغي ألا يكون من نوع النموذج السلف، بل يجب أن يشمل جماع التجربة التاريخية لأمتنا مع الاستفادة من التجربة التاريخية للأمم المناضلة، فنموذج السلف إنما كان نموذجًا كافيًا يوم كان التاريخ هو تاريخنا، يوم كان العالم كله يقع في عقر دارنا.
- من أجل اجتهاد مواكب: وفيه يدعو إلى اعتماد كليات الشريعة ومقاصدها بدل الاقتصار على تفهم معنى ألفاظ النصوص، واستنباط الأحكام منها، أو على قياس حادثة على حادثة فيما لا نص فيه.
- معقولية الأحكام الشرعية: فيدعو إلى إعادة تأصيل الأصول، وجعل أساس التفكير والاجتهاد هو اعتبار المقاصد والمصالح ومعقولية الأحكام، وأن ذلك يفتح الباب أمام التجديد، فاعتبار المصالح يتطور بتطور المصالح والأوضاع واختلاف الوضعيات ومن ثمَّ يقول: قطع يد السارق تدبير معقول تماما في مجتمع بدوي صحراوي يعيش أهله في الحل والترحال. وينتهي إلى أن بناء معقولية الحكم الشرعي على أسباب النزول في إطار اعتبار المصلحة يفسح المجال لبناء معقولية أخرى عندما يتعلق الأمر بأسباب نزول أخرى، أي بوضعيات جديدة، وبذلك تتجدد الحياة في الفقه، وتتجدد الروح في الاجتهاد، وتصبح الشريعة مسايرة للتطور قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان.
- الأحكام والدوران: فيتعرض لقاعدة (الحكم الشرعي يدور مع علته) وينتهي إلى أن مثل هذه القواعد الأصولية ليست مما نص عليه الشرع ولا الكتاب ولا السنة، وأنها من وضع الأصوليين كقواعد منهجية للتفكير لذا على زعمه لا مانع من اعتماد قواعد منهجية أخرى إذا كان من شأنها تحقيق الحكمة من التشريع في زمن معين بطريقة أفضل .
- ادرؤوا الحدود بالشبهات: فيتحدث عن نسبية تطبيق الشريعة، وتفاوت هذه النسبية، وأن تطبيق الشريعة لا يعني فقط إقامة الحدود، بل إن هناك مبادئ وأحكامًا لابد أن تطبق، مثل مبدأ الشورى، ومبدأ (كاد الفقر أن يكون كفرًا) في الحياة الاجتماعية والاقتصادية إلى غير ذلك، وأن تطبيق هذه المبادئ يجب أن يسبق بعض الحدود الشرعية خصوصًا حد السرقة، وينتهي إلى أن القاضي النزيه قد يضطر إل الاكتفاء بالسجن فيما يخص السرقة، طالما أن المجتمع فيه من يضطر إلى السرقة تحت ضغط الحاجة قياسًا على إيقاف عمر لحد السرقة في عام المجاعة.
- حول التطبيق الكامل الشريعة: حيث لم يجد المؤلف حرجًا في أن يقرر أن الشريعة لم تطبق كاملة في يوم من الأيام.
ومن هذه الموضوعات أيضًا التي تناولها هذا القسم: التطرف يمينًا ويسارًا- التطرف بين العقيدة والشريعة.
نقد الكتاب:
يتبنى المؤلف مشروعا تحديثيًّا تجديديًّا، يرى من خلاله ضرورة تجديد أمور الدين، عن طريق قراءة جديدة لنصوص الشريعة، وفهم جديد يناسب ظروف العصر ومعطياته، لذا فلا عجب أن يدعو إلى التجديد في الأصول وفي أحكام الشريعة، التي يرى أنه ينبغي أن تبنى على المصلحة، التي تتغير بتغير الزمان والمكان، ولذا يقول بعدم مناسبة اعتبار النموذج السلفي في هذا العصر إلى غير ذلك مما حمله هذا الكتاب، وفيما يلي أهم المؤاخذات على الكتاب:
أولاً: تبني مشروع تجديد الشريعة.
ويتمثل هذا التجديد- الذي يريد المؤلف أن يكون تجديدًا جذريًّا، تجديدًا في الأعماق ومن الأعماق، يتمثل هذا التجديد في أمور، منها:
1- إعادة تأصيل الأصول.
لم يكن من السهل أن يتم للمؤلف- ومَن على شاكلته- مشروع التجديد دون إزالة العقبات التي تعترض هذا المشروع، ومن أهمها هذا التراث الذي تركه علماء هذه الأمة من قواعد في الفهم، وأصول في الاجتهاد، فأعلن المؤلف التمرد على هذا التراث، لذا يقول عن هذه الأصول تمهيدًا لنسفها؛ يقول (ص: 179) إنها (ليست مما نص عليه الشرع ولا الكتاب ولا السنة، بل إنها من وضع الأصوليين، إنها قواعد للتفكير وقواعد منهجية، ولا شيء يمنع من اعتماد قواعد منهجية أخرى إذا كان من شأنها أن تحقق الحكمة من التشريع في زمن معين بطريقة أفضل).
ومن ثم يتناول أحد القواعد الأصولية المتقررة وهي أن (الحكم يدور مع علته وجودا وعدما) والعلة وصف منضبط، وبهذا الوصف يُعرف وجود الحكم. فيريد المؤلف أن تكون القاعدة هكذا: الحكم الشرعي يدور معالحكمة والمصلحة لا مع العلة، فإذا وُجدت الحكمة والمصلحة وُجد الحكم، وإذا عُدمت أُلغي الحكم، ويمثل على ذلك: بمسألة إباحة الفوائد المترتبة على بعض المعاملات المالية التي هي نوع من شهادات الاستثمار وسندات البنوك وذلك لعدم وجود الاستغلال في هذا النوع من المعاملات، ويقول (ص: 177): ومعلوم أن منعالاستغلال هو الحكمة من تحريم الربا.
ثم يقول (ص: 182): لماذا نضيق على أنفسنا، ونسجن اجتهادنا في قواعد كانت تفي بالمصلحة والمقاصد قليلًا أو كثيرًا في زمان، إذا لم تعد تفي بنفس الغرض اليوم على أكمل وجه؟ والحال أنها قواعد مبنية على ظن المجتهد، وليس فيها شيء من القطع واليقين باعتراف أصحابها أنفسهم، أما دوران الأحكام مع المصالح فشيء يفرض نفسه ما دمنا نقرر أن المصلحة هي الأصل في التشريع، وأعتقد أن هذا المبدأ هو الذي صدر عنه الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب، وإذن فالاجتهاد يجب أن يكون لا في قبول هذا المبدأ أو عدم قبوله بل في نزع الطابع الميكانيكي عن مفهوم الدوران، والعمل من أجل الارتفاع بفكرة المصالح إلى مستوى المصلحة العامة الحقيقية، كما تتحدد من منظور الخلقية الإسلامية، إنه بدون هذا النوع من التجديد سيبقى كل اجتهاد في إطار القواعد الأصولية القديمة اجتهاد تقليد وليس اجتهاد تجديد، حتى ولو أُتي بفتاوى جديدة.
ودعوى المؤلف تجديد الأصول بهذا المعنى دعوى مرفوضة، المراد منها التلاعب في الأحكام الشرعية، وتبديلها دون التقيد بقواعد ولا ضوابط، وإلا فلماذا ينادى بتجديد أصول الفقه على وجه الخصوص دون علم الفقه أو العقيدة أو التفسير أو المصطلح وغيرها من العلوم ؟
إن هذه الأصول والقواعد مبنية على نصوص الشريعة وعمل الصحابة وفهمهم مع الاستعانة بقواعد اللغة خلافا لما يدعيه المؤلف، الذي يريد أن يطوع ثوابت الشريعة وأصولها لمتغيرات الحياة وظروفها وتطورها بدعوى أن هذه الأصول لم تعد مناسبة لهذا العصر.
2- الاعتماد على معقولية الأحكام الشرعية
فقد جعل المؤلف المقاصد والمصالح أساسًا للتشريع، وربط الأحكام الشرعية بأسباب نزولها، وفي هذا يقول (ص:170): عملية تأسيس معقولية الأحكام هي العملية التي بدونها لا يمكن تطبيق الشريعة على المستجدات، ولا على الظروف والأحوال المختلفة المتباينة، ولما كان مقصد الشارع الأول والأخير هو مصلحة الناس (فالله غني عن العالمين)، فإن اعتبار المصلحة هو الذي يؤسس معقولية الأحكام الشرعية، وبالتالي فهو أصل الأصول كلها، وواضح أن هذه الطريقة تتحرك في دائرة واسعة لا حدود لها؛ دائرة المصلحة، وبالتالي فهي تجعل الاجتهاد ممكناً ولدى كل حالة.
ويدعو كذلك إلى ربط الأحكام بأسباب نزولها حتى تبدو الشريعة أشد مسايرة لظروف العصر ومتغيراته فيقول (ص: 173): لا سبيل إلا باعتبار المقاصد والمصالح أساسًا للتشريع، ذلك لأنه في هذه الحالة يتجه المجتهد بتفكيره لا إلى اللفظ (الحقيقة، المجاز، الاستعارة، الخصوص، العموم)، بل إلى (أسباب النـزول)، وهذا باب عظيم واسع يفتح المجال لإضفاء المعقولية على الأحكام بصورة تجعل الاجتهاد في تطبيقها، وتنويع التطبيق باختلاف الأحوال وتغير الأوضاع أمرًا ميسورًا. ويقول: بناء معقولية الحكم الشرعي على (أسباب النـزول) في إطار اعتبار المصلحة يُفسح المجال لبناء معقوليات أخرى عندما يتعلق الأمر بـ(أسباب نزول) أخرى، أي بوضعيات جديدة، وبذلك تتجدد الحياة في الفقه، وتتجدد الروح في الاجتهاد، وتصبح الشريعة مسايرة للتطور قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان.
ولا شك أن ذلك يترتب عليه تبديل الأحكام على اعتبار أن الأحكام ارتبطت بزمنها ومكانها، لذا يرى ضرورة تغيرها في زماننا هذا، والصحيح أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب يقول الشوكاني عن: (وهو المذهب الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة؛ لأن التعبد للعباد إنما هو باللفظ الوارد عن الشارع، وهو عام ووروده على سؤال خاص لا يصلح قرينة لقصره على ذلك السبب، ومن ادعى أنه يصلح لذلك فليأت بدليل تقوم به الحجة، ولم يأت أحد من القائلين بالقصر على السبب بشيء يصلح لذلك) ((إرشاد الفحول))(1/335).
ويترتب على قول المؤلف هذا أنه يرى ضرورة إعادة النظر في موضوع الحدود كما في النقطة التالية.
3- إسقاط الحد في جرائم السرقة والزنا وغيرهما، والاكتفاء فيها بالسجن
وهذا مترتب على قوله بمعقولية الأحكام الشرعية، لأن الحدود- في نظره- ليست غاية في ذاتها، وإنما هي وسيلة لردع وزجر النوازع الذاتية الفردية الهدامة، أي التي تمس مصلحة الجماعة أو الأمة.
فيقول (ص: 174): إذا تحررنا من سلطة القياس والانشداد إلى الألفاظ، وانصرفنا باهتمامنا بدلاً من ذلك إلى البحث عن (أسباب النـزول)، وهي هنا الوضعية الاجتماعية التي اقتضت نوعًا ما من المصلحة، وطريقة معينة في مراعاتها، فإننا سنجد أن قطع يد السارق تدبير مبرر ومعقول داخل تلك الوضعية، وهكذا فبالرجوع إلى زمن البعثة المحمدية، والنظر إلى الأحكام الشرعية في إطار الوضعية التي كانت قائمة يومئذ، سنهتدي إلى المعطيات التالية: أولاً: أن قطع يد السارق كان معمولاً به قبل الإسلام في جزيرة العرب. ثانياً: أنه في مجتمع بدوي ينتقل أهله بخيامهم وإبلهم من مكان إلى آخر طلباً للكلأ؛ لم يكن من الممكن عقاب السارق بالسجن، إذ لا سجن ولا جدران ولا سلطة تحرس المسجون وتمده بالضروري من المأكل والملبس…. إلخ، وإذن فالسبيل الوحيد هو العقاب البدني. وبما أن انتشار السرقة في مثل هذا المجتمع سيؤدي حتمًا إلى تقويض كيانه، إذ لا حدود ولا أسوار ولا خزائن، فلقد كان من الضروري جعل العقاب البدني يلبي هدفين: تعطيل إمكانية تكرار السرقة إلى ما لا نهاية، ووضع علامة على السارق حتى يُعرف ويحتاط الناس منه، ولا شك أن قطع اليد يلبي هذين الهدفين معًا، وإذن فقطع يد السارق تدبير معقول تمامًا في مجتمع بدوي صحراوي يعيش أهله على الحل والترحال، ولما جاء الإسلام وكان الوضع العمراني الاجتماعي زمن البعثة لا يختلف عما كان عليه من قبل احتُفظ بقطع اليد كحد للسرقة من جملة ما احتُفظ به من التدابير والأعراف والشعائر التي كانت جارية في المجتمع العربي قبل الإسلام، مع إدراجها في إطار خلقية الإسلام.
ويستدل الجابري على إسقاط الحدود بحديث (ادرؤوا الحدود بالشبهات) مدعياً أن شبهات عصرنا كثيرة ومتفرعة بسبب تعقد الحياة المعاصرة، وتنوع الحوافز فيها، بالإضافة إلى وجود الشبهات الراجعة إلى السياسة التي تجعل تنفيذ الحدود يلتبس بالأغراض والدوافع السياسية، وتلك-كما يقول- شبهة وأية شبهة.
فالمؤلف يحتال على رد الحدود بأن هذه الحدود كانت مناسبة للوقت التي شرعت فيه، أما الآن فالأمر يختلف، وهذا كلام باطل مردود.
ثم إن معرفة مقاصد الشريعة ليس المراد منها الاستغناء بها عن أحكام الشريعة التفصيلية التي أثبتتها النصوص؛ لأن الله تعالى طلب منا أن نحقق هذه المقاصد عن طريق الوسائل التي شرعها، ولم يترك لنا الخيار في تحقيقها بأي طريق، فنحن متعبدون بالوسائل كالتعبد بالمقاصد، فالإسلام قصد من قطع يد السارق الردع والزجر، وشرط علينا أن نحقق ذلك عن طريق القطع، فعقوبة السارق بما هو فوق ما حدَّه الشرع ظلم، وعقوبته بما هو دون القطع لا يتحقق منه المقصد الشرعي.
4- التوسع في تحديد مقاصد الشريعة
فالمؤلف لم يقتصر بعد دعوته إلى الاعتماد على المقاصد الشرعية أساسًا في التشريع، لم يقتصر فيها على ما ذكره فقهاء الأمة، واتفقوا عليه فيما يدخل ضمن الضروريات، والحاجيات، والتحسينات، حيث يقول (ص:189): إن الأمور الخمسة التي حصر فيها فقهاؤنا القدامى الضروريات كانت وما تزال وستبقى أمورًا ضرورية بالفعل، أي مقاصد أساسية لكل تشريع يستهدف فعلاً خدمة (مصالح العباد)، غير أن (مصالح العباد) اليوم لم تعد مقصورة على حفظ الدين والنفس العقل والنسل والمال، بل إنها تشمل بالإضافة إلى الأمور الخمسة المذكورة أمورًا أخرى نعتقد أنه لابد من أن ندرج فيها: الحق في حرية التعبير وحرية الانتماء السياسي، والحق في انتخاب الحاكمين وتغييرهم، والحق في الشغل والخبز والمسكن والملبس، والحق في التعليم والعلاج.. إلى غير ذلك من الحقوق الأساسية للمواطن في المجتمع المعاصر. أما الحاجيات فبالإضافة إلى ما ذكره فقهاؤنا القدامى؛ هناك حاجيات جديدة مثل الحاجة إلى توفير الصحة والوقاية من الأمراض بإعداد ما يكفي من مستشفيات وغيرها، والحاجة إلى ما لابد منه لتنشيط الإبداع الفكري في مختلف المجالات العلمية والفنية والنظرية، والحاجة إلى ما لابد منه لاكتساب معرفة صحيحة بالواقع والأحداث… أما التحسينات التي يتطلبها عصرنا فحدِّث ولا حرج. ويختم كلامه بهذا الخصوص بقوله (ص:192): إذا كانت هناك ضرورات عامة خالدة كتلك التي أحصاها فقهاؤنا بالأمس، فإن لكل عصر ضرورياته وحاجياته وتكميلياته، وهكذا فعندما ننجح في جعل ضروريات عصرنا جزءًا من مقاصد شريعتنا فإننا سنكون قد عملنا ليس فقط على فتح باب الاجتهاد في وقائع عصرنا المتجددة المتطورة؛ بل سنكون أيضًا قد بدأنا العمل في تأصيل أصول شريعتنا نفسها بصورة تضمن الاستجابة الحية لكل ما يحصل من تغيير أو يطرأ من جديد.
ثانيا: ادعاؤه أن الشريعة الإسلامية لم تطبق تطبيقاً كاملاً في كل مراحل التاريخ الإسلامي
ولم يستثن المؤلف من ذلك حتى المرحلة الأولى في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، فنراه يعلنها صراحة في قوله ص203: أنا لا أجد حرجاً لا في ديني ولا في وجداني ولا في عقلي إذا قلتُ إن الشريعة الإسلامية لم تطبق قط كاملة في يوم من الأيام.
ثالثا: عدم مناسبة النموذج السلفي لهذا العصر
فيرى المؤلف أن السلفية لا تناسب الأمة الإسلامية في العصر الحاضر للحفاظ على وجودها واستمراريتها لأن السلفية يراها نوعا من المقاومة الذاتية لأمراض داخلية ذاتية المنشأ، وقد كانت كافية وناجعة عندما كانت الحضارة العربية الإسلامية هي حضارة العالم لعصرها، أعني غير مزاحمة ولا مهددة بحضارة معاصرة لها على صعيد الزمن كما في (ص:140) . لذا فهو يرى أن النموذج الذي يجب استلهامه من أجل إعادة بناء الذات تجربتان: أولاهما جماع التجربة التاريخية لأمتنا بغض النظر عمن صدرت عنهم هذه التجربة وعن موافقتها للحق والصواب من عدمه. والثانية: التجربة التاريخية لمختلف الأمم الأخرى، لذا يقول (ص: 141): النموذج الذي يجب استلهامه من أجل إعادة بناء الذات؛ ذاتنا نحن وتحصينها وتلقيحها ضد الذوبان والاندثار والاستلاب ينبغي ألا يكون من نوع (النموذج –السلف) الذي يُقدِّم نفسه كعالم يكفي ذاته بذاته، بل يجب أن يشمل جماع التجربة التاريخية لأمتنا مع الاستفادة من التجربة التاريخية للأمم التي تناضل مثلنا من أجل الوجود والحفاظ على الوجود، وأيضاً من التجربة التاريخية للأمم التي أصبحت اليوم تفرض حضارتها كحضارة للعالم أجمع. لقد كانت السلفية كافية وفعالة وإجرائية يوم كنا وحدنا في بيت هو بيتنا وبيت لنا في نفس الوقت، أما وقد أصبحنا جزءاً في كل فإن الطريق الوحيد لإثبات وجودنا والحفاظ على خصوصيتنا داخل هذا الكل هو طريق التعامل معه بالمنطق الذي يؤثر فيه؛ منطقه هو ولكن من مواقعنا لا من مواقع غيرنا، ومنطق الكل الذي ننتمي إليه اليوم – أعني منطق الحضارة المعاصرة- يتلخص في مبدأين: العقلانية، والنظرة النقدية. العقلانية في الاقتصادي والسياسة والعلاقات الاجتماعية، والنظرة النقدية لكل شيء في الحياة؛ للطبيعة والتاريخ والمجتمع والفكر والثقافة والإيديولوجيا. هذا في حين أن منطق سيرة السلف الصالح- التي تُمثل المدينة الفاضلة في التجربة التاريخية للأمة العربية الإسلامية- كان شيئاً آخر، كان منطقه يقوم على المبدأ التالي: الدنيا مجرد قنطرة إلى الآخرة، وقد أدى هذا المنطق وظيفته يوم كان العصر عصر إيمان فقط، وليس عصر علم وتقنية وأيديولوجيات.
ورأي المؤلف هذا ناشئ عن جهل بحقيقة السلفية وقدرتها على مواكبة العصر ومعايشة مستجداته.
رابعا: رغبته في إحلال الديمقراطية والعقلانية محل العلمانية:
وقد أصاب المؤلف حين اعتبر أنَّ إشكالية فصل الدين عن الدولة لا وجود لها في التجربة التاريخية للأمة الإسلامية. وأنه لا معنى في الإسلام لإقامة التعارض بين الدين والدولة وأن مسألة العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة، ولكنه يرى أنه يجب استبدال العلمانية بالديمقراطية والعقلانية.
لكن ما الذي يحوج النظام الإسلامي إلى الديمقراطية، والحكم الإسلامي حكم له تاريخه الخاص وله مؤسساته الخاصة وله آليته الخاصة في تحقيق أهدافه؟ وما هي العقلانية التي يريدها المؤلف؟ فدعوة المؤلف إلى الديمقراطية لا تختلف كثيرًا عن الدعوة إلى العلمانية، فالديمقراطية هي الوجه الآخر للعلمانية، مع تغاضيه عما تحمله من الكثير من المخالفات لأحكام الشريعة.
خامسا: دعوته إلى فصل الدين عن السياسة:
فقد دعا المؤلف إلى فصل الدين عن السياسة كما في (ص: 116) لأنَّ الدين يمثل ما هو مطلق وثابت، بينما تمثل السياسة ما هو نسبي ومتغير، والسياسة تحركها المصالح الشخصية الفئوية، أما الدين فيجب أن ينـزه عن ذلك، وأنَّ الدين يوحِّد في حين أنّ السياسة تفرق.
وهذه الدعوى من المؤلف ألا تعني فصل الدين عن الدولة؟ فمفهوم فصل السياسة عن الدين ما نشأ إلا بعد ظهور العلمانية، وكأثر من آثارها، ويكفي ذلك في رد دعوى المؤلف.
هذه الدعوى التي يكذبها التاريخ، فالمسلمون حينما كانت سياستهم مرتبطة بالدِّين، سادوا الدنيا، وفتحوا الفتوح، وشيدوا دولة العدل والإحسان، وأقاموا حضارة العلم والإيمان.
سادسا: جرأته على رد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم
فيقول: روجوا لحديث نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: (الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك)، ومدة ثلاثين سنة هي مدة خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة. وهناك حديث آخر أكثر دلالة فيما نحن بصدده يروونه بالعبارات التالية: (قال صلى الله عليه وسلم: إن هذا الأمر بدأ نبوة ورحمة وخلافة ثم يكون ملكاً عضوضاً ثم يكون عتواً وجبرية وفساداً في الأمة). والأحاديث التي من هذا النوع، أعني التي لها طابع سياسي يخدم وجهة نظر طرف معين، وهو في هذه الحالة يخدم قضية الأمويين، أحاديث مشكوك فيها، والغالب أنها موضوعة. وإذا كان من الممكن حمل هذا (الحديث) على محمل النقد للأوضاع التي عاشها مروجوه، فإن فيه تعزيزاً مباشراً لعملية (انقلاب الخلافة إلى ملك عضوض) بوصفها عملية (تنبأ) بها الرسول.
سابعا: إساءته لعثمان ومعاوية رضي الله عنهما
فقد قال عن عثمان (ص: 78) : مدة ولايته طالت حتى مله الناس.
وقال عنه أيضًا (ص: 78): والخليفة طاعن في السن يحيط به جماعة من الأقارب وأصحاب المصالح يصنعون له القرار ويسيئون التصرف ولم تجد النصيحة في إصلاح الوضع لأن جماعة الضغط وصانعي القرار المحيطين بالخليفة كانوا يعرفون كيف يحملونه على التراجع عن وعوده بالإصلاح )
كذلك أساء إلى معاوية رضي الله عنه فقال (ص:83): كان معاوية يعرف جيدًا أنه اغتصب الحكم بالسيف وأنه بالتالي يفتقد الشرعية.... فراح يلتمس الشرعية لحكمه من القضاء والقدر. إلى أن قال (ص: 84): وسار الخلفاء الأمويون من بعده على هذا النهج فاعتمدوا القول بالجبر كأيدلوجيا، والعطاء كممارسة سياسية، فكان هذا وذاك هو أساس الشرعية التي بنوا عليها حكمهم.
ثامنا: ادعاؤه أنَّ المصالح الكلية هي التي كانت تحرك عمل الصحابة.
ويحتج لذلك بأمور منها: عدم توزيع عمر أرض سواد العراق على المقاتلين، وفرض الخراج عليها كبديل لذلك، وأيضًا عدم إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة، وعدم قطع يد السارق في عام المجاعة.
ويجاب عن ذلك بأن عمر لم يقدم المصلحة على النص، وإنما رأى في موضوع قسمة الأرض تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ورأى في المؤلفة قلوبهم أن الحكم يدور على علة دفع أذاهم والاستعانة بهم، فلما قويت شوكة المسلمين انتفت علة إعطائهم من الزكاة، ولم يقطع يد السارق في عام المجاعة إعمالًا لقواعد الشريعة التي قضت بدرء الحدود بالشبهات، فلا يصح الاحتجاج بذلك على تعطيل النصوص بدعوى المصلحة، فلا يوجد حكم شرعي ينافي المصلحة.
هذه بعض المؤاخذات التي أخذت على المؤلف، وقد كانت محل نقد من كثير من أهل العلم لما تحمله من هدم لتراث الأمة وتبديل لشريعتها بدعوى التجديد، واكتفينا بردود إجمالية على ما طرحة المؤلف من شبهات، لتهافت هذه الشبهات، ولأن المقام لا يتسع للتفصيل في بيان عوارها.
0 comments:
Catat Ulasan