الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم وبارك على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته واهتدى بهديه
وبعد، فقد اطلعت على حديث لأحد الصحفيين وهو مصطفى الأنصاري نشرته صحيفة الحياة بتاريخ 11/1/1432هـ تحدَّث فيه هذا الصحفي عن ماضي الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وحاضرها، وقد رأيت أن أنبه مما جاء في كلامه على أمور ثلاثة:
الأول: أنه اعتبر أول عهدها في زمن شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله العصر الذهبي لها، فقال: ((أكثر المتابعين وكذا الدارسين في الجامعة العريقة يجمعون على أنها عاشت عصرها الذهبي في عهد الشيخ عبد العزيز بن باز))، وقد صدق في ذلك فلقد كان عصراً ذهبياً فيه شبابها وقوتها لما أعطاه الله من علم وفضل وعمل وتعليم ودعوة وهيبة ووقار وقبول حسن في قلوب الناس، لكن هذا الصحفي قد جانب الصواب وبعُد عنه عندما قال: ((وإذا كان العقلا قاد الجامعة بعقلية الاقتصادي الذي يعرف كيف يكسب الناس ـ أي ناس ـ وكيف يخسرهم، فإن المعجبين بسياساته يعتبرونه لم يزد على أن أعاد الجامعة إلى ماضيها الذهبي))!!!
فإن أي عاقل يطَّلع على هذا الكلام في الربط بين ماضيها في زمن الشيخ عبد العزيز بن باز وحاضرها في عهدها الجديد ووصفهما بالذهبي يتضح له التباين التام بين هذين العهدين وأن الفرق بينهما كالفرق بين السماء والأرض وأن الحقيقة في واد وكلام هذا الصحفي في واد آخر؛ فإن عهد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فيه العناية والاهتمام بالغرض الذي أُسست من أجله الجامعة، وهو توجيه أبناء المسلمين وتفقيههم في الدين ليعودوا إلى بلادهم بعد تخرجهم هداة مهتدين، كما قال الله عز وجل: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)، وأما في العهد الجديد ففيه العناية والاهتمام بإيجاد كليات دنيوية تزاحم اختصاصها وتضعف نشاطها، وهو نظير ما حصل للأزهر من ضعف في مجال اختصاصه بعد تطويره بافتتاح مثل هذه الكليات الدنيوية فيه قبل نصف قرن من الزمن، وأيضاً فإنه في عصرها الذهبي ما كان يفكَّر بابتعاث أحد من طلابها للدراسة خارج المملكة، بخلاف العهد الجديد الذي يُبتعث فيه بعض الطلاب حتى لدراسة تاريخ المملكة واللغة العربية في أوروبا!! بل ويُجعل من شروط التقدم لبعض الوظائف بالجامعة موافقة المتقدم على الابتعاث للدراسة في الخارج!!! ولا ينتهي عجب العاقل من ابتعاث الجامعة إلى أوروبا للتخصص في اللغة العربية وفي تاريخ المملكة!! وهو نظير مجيء الأوروبيين للتخصص في تاريخ بلادهم في المملكة ومجيء البريطانيين للتخصص في اللغة الانجليزية في الجامعات السعودية، والثاني لا يفكَّر فيه، والأول يُسعى إليه باهتمام بالغ! والله المستعان، وكانت المحاضرات التي تقيمها الجامعة الإسلامية في عصرها الذهبي في العلوم الشرعية عقيدةً وتفسيراً وحديثاً وفقهاً وغير ذلك، وأما المحاضرات في العهد الجديد فهي خليط من الغث والسمين ويصدق على بعضها المثل: ((أسمع جعجعةً ولا أرى طِحناً)) أي: دقيقاً، وفيها ما لا علاقة له بالعلم الشرعي لا من قريب ولا من بعيد، كمحاضرات وزراء التربية والتعليم، والشؤون البلدية والقروية، والمالية عن مجالات وزاراتهم، وفي العهد الجديد استقدمت الجامعة بعض النساء لبعض مؤتمراتها، فهل قدمن بصحبة محارمهن؟! وهل التزمن بالحجاب وتغطية الوجوه؟! وهل سلمت المرأة من الركوب مع سائق وحدها؟! والمسئولون في الجامعة هم الذين يعرفون الحقيقة في ذلك، ومن كان منهن من الصحفيات أو من جنس المشاركات في منتدى التغريبيين في جدة الذي سموه زوراً منتدى خديجة بنت خويلد من كانت منهن كذلك فهي لا تبالي بالتقيد بهذه الأحكام الشرعية، وقد أخبرني أحد رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه رأى أيام المؤتمر الذي عُقد في الجامعة قبل أيام رأى سيارة عليها شعار الجامعة ليس فيها إلا سائق السيارة وامرأة في المقعد الخلفي غير متحجبة سافرة عن وجهها، ومثل هذه الأمور لا يجيزها صاحب العصر الذهبي رحمه الله، فهو لا يجيز سفر المرأة بدون محرم ولا كشف وجهها عند الأجانب ولا ركوبها مع الأجنبي في سيارة، يوضح ذلك أن صحفياً آخر هو حمَّاد حامد السالمي حضر هذا المؤتمر وأبدى إعجابه به وبالجامعة وكتب مقالاً بعنوان: ((هُم.. وهُنّ.. في (الجامعة الإسلامية)..؟!)) نشرته جريدة الجزيرة بتاريخ 20/1/1432هـ قال فيه: ((من كان يصدق أن زميلتنا الكاتبة المشاكسة (سمر المقرن) تدخل الجامعة الإسلامية وتدير من حرمها أمسية حوارية من الجانب النسائي، مشاركة مع معالي الشيخ الدكتور (صالح الحميد) رئيس مجلس القضاء الأعلى..؟!! ... الجامعة الإسلامية بدون شك تتغير إلى الأفضل، وتتطور إلى الأجمل، وهي تطوي أمسها لتعيش حاضرها وتلحق بغدها، فمن سار على الدرب وصل))، وهكذا يكون الفرح والسرور من هذا الصحفي بحضور زميلته (المشاكسة!) إلى الجامعة وبالانحدار الذي وصلت إليه الجامعة التي تولى رئاستها من قبلُ شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله مدة أربعة عشر عاماً وستة أشهر، الانحدار الذي طوت فيه الجامعة أمسها لتعيش حاضرها وتلحق بغدها!! وقد قيل: لا يمدح السوق إلا من ربح، وقد ربح التغريبيون والصحفيون سوق الجامعة الجديد فمدحوه، ولهذه الزميلة المشاكسة حوار في صحيفة الشروق أون لاين بتاريخ 18/3/2009م ضد النقاب (تغطية الوجه)، ومع هذا جيء بها للجامعة الإسلامية، فمن يصدق ذلك؟!! ومن حضر من المشايخ إلى الجامعة لمحاضرة أو مشاركة لا يعني ذلك رضاه بما يحصل في الجامعة من مخالفات
وفي العهد الجديد يُعنى بالكم دون الكيف، وبالمظهر دون المخبر، ومن أمثلة الأول أنه فتح في الجامعة دراسة مسائية تُوسع في القبول فيها وقُبل فيها لدراسة الماجستير في إحدى السنوات في قسم التربية بعض الطلاب الذين مستوياتهم متدنية وفيهم سبعة معدلهم التراكمي بين (2) و (3)، وواحد دون (2)، وقد فهمت من بعض المسئولين أن سبب قبولهم أنه لم يتقدم للقسم العدد الكافي لفتحه فلذا قُبلوا، والحل الصحيح أن يوقف القبول في تلك السنة لا أن يفتح ويعبأ بمثل هؤلاء الضعفاء الشديدي الضعف الذين يهبطون بمستوى الجامعة ويسيئون سمعة زملائهم الأقوياء، ومنه التوسع في قبول الطلاب في الجامعة عموماً دون مراعاة لما ينبغي أن يكون عليه طلاب العلم في الجامعة من سمت وصفات حسنة، ومن أمثلة الثاني أن الجامعة اتفقت مع عدد من الطلاب ليحضروا جلسات المؤتمر الذي عُقد في الجامعة قبل أيام مع تغيبهم عن الدراسة في مقابل مكافأة تصرف لكل واحد منهم، وقد سمعت من أحد المشاركين في المؤتمر من إحدى جامعات المملكة التعجب من كثرة الحضور وهو شيء لم يألفه في جامعته، ولما علم أن هذا الحضور بمكافأة زال عجبه، وقد قيل: ((إذا عرف السبب بطل العجب))، ومنه عناية الجامعة في عهدها الجديد بالتقدم في السباق العالمي للجامعات تحت اسم التطوير والجودة والاعتماد الأكاديمي، فإن هذه الجامعة الإسلامية الغرض من تأسيسها والمطلوب فيها تحقيق تقوى الله ونيل رضاه وتحصيل العلم النافع الذي يسار فيه إلى الله عز وجل، وكيف يبحث عن تقدم عند أناس لا وزن للعلم الشرعي عندهم وهم خصوم له
الثاني: أبدى هذا الصحفي إعجابه بالعهد الجديد للجامعة ووصف صاحب العهد الجديد بأنه ((أشعلها بالبساطة والحريات))! وأثنى عليه بخلع باب الجامعة ليتمكن كل أحد من دخولها، فقال: ((بينما الأرجح أنه جاءها من (الباب المخلوع)، غير أن الأكثر إثارة أن العقلا حين دخل الجامعة الإسلامية من ذلك الباب لم يقم بتجويده وإغلاقه، بل سامه خسفاً وخلع حلقاته بالكلية))، وقال تحت عنوان: ((إصلاحات أم انقلابات؟)): ((سياسة (الباب المخلوع) التي انتهجها العقلا، هي التي جعلت الدكتور عبد العزيز قاسم يطمع في أن تستضيف الجامعة الإسلامية حتى الدكتور عبد الله الغذامي بعد أن منعته جامعة الإمام من إلقاء محاضرة له كانت مقررة))، ونقل عن هذا الدكتور أنه دخل الجامعة في عهدها الجديد أناس لم يحصل لهم دخولها من قبل في الفترة ((التي سيطر على مفاصلها فصيل سلفي محلي)) كذا قال هذا الدكتور، وقال أيضاً: ((والحقيقة أن مدير الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الدكتور محمد علي العقلا مذ تسنَّم رئاسة هذه الجامعة العتيدة التي لها تاريخها المضيء في الدعوة وترسيخ العلم الشرعي يقوم بإصلاحات أشبه بالانقلابات على مفاصل الجامعة وحلحل كثيراً من مداميكها بهدوء وتؤدة ونفَس طويل))!
وقد أفصح هذا الصحفي عن أوصاف الذين دخلوا الجامعة بعد خلع بابها فقال: ((إلا أن الأهم من الفعاليات أنك تجد ضيوفها من الداخل والخارج يمثلون كل الأطياف من إسلاميين وليبراليين وعلمانيين وأصوليين الملتزمين منهم والمنفتحين))!!! كذا قال هذا الصحفي ومعلوم أن مثله على معرفة بأصناف داخلي الجامعة بعد خلع بابها
الثالث: ينبز بعض المناوئين لأهل السنة بعض أهل السنة بأنهم ((جامية))، ومن النابزين بذلك أسامة بن لادن عندما كان في السودان قبل ذهابه منها إلى حركة طالبان بأفغانستان، وهذا النبز بـ((الجامية)) لبعض أهل السنة نظير نبز المناوئين لأهل السنة دعوةَ الشيخ محمد بن عبد الوهاب بـ((الوهابية)) تنفيراً منها، والذي عُرف بنسبة ((الجامي)) هو الشيخ محمد أمان الجامي رحمه الله الذي توفي قبل خمسة عشر عاماً تقريباً، وكان له جهود طيبة في بيان عقيدة أهل السنة والدفاع عنها، وهذا الصحفي من النابزين بذلك، قال: ((وحتى المديرون الأربعة الذين أعقبوه (البدر والزايد والعبيد والعبود) كانت لهم سياستهم التي دافعوا عنها في حينه، لكن الذي وثقته المصادر المهتمة برصد تاريخ الجامعة أنهم جميعاً كانوا يحاولون تحقيق توازن وفق رؤيتهم التي يحملونها، فحاولوا ـ كما تردد ـ (تحرير الجامعة من التيارات الحزبية) التي قيل: إنها كانت منجماً للتطرف، حتى اتُهموا من جانب مناوئيهم بأنهم (اتخذوا الجامعة محافظة جامية)!! لكن المهم هنا أن الجامعة ـ وإن كان تحت هذا النقد المتحيز ـ بقيت مثار جدل بعنوان: (الجامية ضد الحزبية) مثلما كانت من قبلُ حيةً بعنوان: (الاستقطاب المفتوح)))!!
وقد ضرب الشيخ محمد أمان الجامي رحمه الله مثلاً لحزب مخالف لما كان عليه أهل السنة معنيِّ بتجميع الناس على مبدئه، ولهذا المثل أيضاً شبه بسياسة (الباب المخلوع) في الجامعة الإسلامية بالمدينة فقال: ((فمثلهم كمثل الذي دخل سوقاً غاصة بالناس رجالاً ونساءً ليدعوهم إلى الصلاة، فجعل يناديهم قائلاً: أيها الناس إننا أنشأنا لكم مسجداً في غاية السعة، فهلموا جميعاً لأداء الصلاة فيه ولا يتأخرن أحد وليأت كل واحد على ما هو عليه: المتوضئ بوضوئه، والمحدث بحدثه، والجنب بجنابته، بل حتى الحائض والنفساء؛ لأننا لا نرد أحداً، إذ قصدنا خلق مجتمع إسلامي عام شامل، وكلنا إخوان مسلمون)) مجموع رسائل الجامي في العقيدة والسنة (ص376).
وقد قيل: بعض الشر أهون من بعض، فهذا الصحفي أقل سوءاً من الصحفية التي حضرت مؤتمراً سابقاً للجامعة وحاورت مديرها ووصفت العهد الجديد للجامعة بأنه أحييت الجامعة فيه بعد ممات وبأنه نُفخ فيها الروح؛ لأن هذا الصحفي استثنى عهد الشيخ ابن باز رحمه الله وهي لم تستثنه، وقد أشرت إلى هذا الحوار في كلمة سابقة بعنوان: ((من ذكرياتي عن الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة بعد مرور نصف قرن على إنشائها)) نشرت في 20/6/1431هـ، ومما قلته فيها: ((وأما حياة الجامعة الجديدة التي زعمتها الصحفية في المدة التي بدأ فيها إضعاف الجامعة في مجال اختصاصها فهي في الحقيقة فترة شيخوخة وهرم وهي مما يُعزَّى عليه، وقد عايشت هذه الجامعة وأدركت في شبابي شبابها وقوتها، ثم أدركت في شيخوختي هرمها وضعفها، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وإنه ليحزنني ويؤلمني كثيراً أن أرى جامعة أُسست على التقوى من أول يوم وتولى غراسها الشيخان الجليلان محمد بن إبراهيم وعبد العزيز بن باز رحمهما الله يؤول أمرها بعد نصف قرن على إنشائها إلى أن تكون في مهب الريح؛ فتعصف بها الأعاصير وتكون محل إعجاب المستغربين والتغريبيين والصحفيين بل وحتى الصحفيات اللاتي لا وجود لهن قبل عدة سنوات)).
وقد يكون لكلمتي هذه والتي قبلها شبه بالإناء من الفضة الذي أحضر فيه رجل ماء لحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما ليشربه فرماه به في ملأ من الناس لأنه نهاه قبل ذلك، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: ((كان حذيفة بالمدائن فاستسقى، فأتاه دهقان بقدح فضة فرماه به، فقال: إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته، وإن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية الذهب والفضة، وقال: هن لهم في الدنيا، وهن لكم في الآخرة)) رواه البخاري (5426) ومسلم (5396)، ولم تكن هاتان الكلمتان المنشورتان أول شيء مني يطرق سمع أبي طارق أو يقع عليه بصره أصلح الله حاله وفعاله، بل ناصحته مشافهة ووصل إليه مني قبلهما ثمان رسائل خاصة في موضوعات متعددة لكن كفة التغريبيين والصحفيين عنده راجحة على كفة الناصحين، وآخر هذه الرسائل بتاريخ 11/5/1431هـ، وقد قلت في ختامها: ((وفي الختام أذكركم بالوقوف بين يدي الله وأنكم مسئولون عن هذه الجامعة وعن كل تجديد غير سديد تعود أضراره عليكم وعلى الجامعة، فاتق الله في نفسك يا أبا طارق! واتق الله في الجامعة ولا تغتر بإعجاب التغريبيين من الصحفيين والصحفيات وغيرهم ولا يستخفنك الذين لا يوقنون، وليكن اهتمامك في الجامعة فيما يعود عليك نفعه في القبر وما بعده)).
وأسأل الله عز وجل أن يلطف بجامعة الشيخين محمد بن إبراهيم وعبد العزيز بن باز ويكشف عنها الغمة ويردها إليه رداً جميلاً وأن يقيها مكر الماكرين من التغريبيين صحفيين وغير صحفيين، فإليه المشتكى وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه
.
الكاتب : فضيلة الشيخ العلامة عبدالمحسن العباد من مشائخ الحرم المدني
http://majles.alukah.net/showthread.php?t=73570
0 comments:
Catat Ulasan